العنف ضد المرأة

 مناقشة العنف ضد المرأة سهلة صعبة. سهلة لأنها لا ينبغي أن تكون قضية خلافية. بل ينبغي أن يكون الموقف المبدئي فيها واضحا وهو أن هذا العنف قبيح، ينبغي تجريمه ككل صور العنف في المجتمع. وينبغي أن يكون النقاش مقتصرا على مناقشة تفاصيل القوانين المجرمة له من حيث سبل إثبات الجريمة وأنواع العقوبات. 

 

وصعبة لأن هذا العنف، المنتشر في كافة المجتمعات، يحظى عندنا بـ"غطاء شرعي." فالشرع الشريف، وإن لم يكن هو الدافع للعنف، بل دوافع العنف ضد المرأة اجتماعية موجودة – بكل أسف – في جل المجتمعات البشرية، فإنه يستخدم في تبرير الجريمة، بدعوى أنه يسمح بضرب الرجل زوجته.  وسأقصر كلامي على تلك القضية تحديدا: موقف الشرع الشريف من العنف ضد المرأة، مع الإقرار بأن الشرع ليس منشئا لهذه الظاهرة، وأني لم أسمع قط بشخص يضرب زوجته "امتثالا لأمر الشرع"، وإنما يأتي التذرع بنصوص الشرع في إطار الدفاع عن النفس ولتبرير نوع الفعل الذي وقع.

 

وأعتذر مقدما عن الإطالة، إذ سأرتب الكلام في اثنتي عشرة نقطة/قضية، يطول الكلام في بعضها.

 

القضية الأولى: أن السؤال في أغلب الأحوال مشبوه. الضرب قطعا قبيح، لم يقل أحد بغير ذلك. بقطع النظر حتى عن سؤال الحل والحرمة، وسيأتي الكلام عنهما، فهو قطعا سلوك يفتقر للأخلاق. وهذه مسألة يدركها كل سوي النفس، من غير احتياج لنص شرعي. ومع ذلك فقد أكدتها نصوص الشرع. ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيار لا يضربون، وورد عنه توبيخ من لا يستحي من ضرب امرأته أول النهار ثم "يضاجعها من آخر يومه." 

 

القضية الثانية: أن حكم الضرب، كما تعلمت وفهمت من مشايخي، وكلهم دارس للعلوم الشرعية بالطرق المعتبرة، وجلهم أزهري الدراسة وكلهم أزهري المنهج، هو الحرمة. الضرب حرام بقطع النظر عن أسبابه ودوافعه، وصورته. ولا يصح الاعتراض على هذا الحكم بقوله تعالى في سورة النساء "واضربوهن." وسيأتي تفصيل ذلك في قضية تالية، ويكفي هنا القول إن الآيات لا يؤخذ بظاهرها هكذا مع قطع النظر عن السياقين: سياقها في القرآن والسياق التاريخي الذي وردت فيه. وإلا لقلنا مثلا أن الشرع يأمر بإعداد الخيل للحرب في كل زمن وحال، ولقلنا أنه أمر بالارتحال بالخيل والبغال والحمير، وغير ذلك مما لا يقول به عاقل. 

 

 

القضية الثالثة: تقول القاعدة الشرعية أن الأصل في الأنفس الحرمة، على عكس المعاملات مثلا، كأنواع الأكل والعقود، التي يكون الأصل فيها الحل. الشرع الشريف، الذي يبيح تناول المأكولات والمشروبات والعقود إلا ما ورد دليل بتحريمه، يريد من تابعه أن يتوخى الحذر فيما يتعلق بالأنفس. يقول تعالى "ولا تعتدوا"، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم "كل المسلم على المسلم حرام"، ولا حصر لنصوص الشرع الشريف الدالة على حرمة العدوان. حرمة الضرب هي الأصل. لا ينصرف الحكم إلى غيرها إلا بدليل، ولا يكون إلا في حدود الدليل، وإلا بقي الأصل.

 

 

القضية الرابعة: هل كان الضرب مباحا في زمن سابق؟ نعم. كانت العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الإسلام قائمة على التراتبية لا التكافؤ. سبب ذلك أن الرجل كان أقدر من المرأة على حفظ حياة الجماعة البشرية وإيجاد أسباب بقائها، بسبب قوته الجسدية. الرجال في الجملة أقوى جسديا من النساء في الجملة. وهذه القوة الجسدية كانت حاسمة في المعارك، وكان مصير الجماعة البشرية يتحدد بحسب نتائج المعارك التي تخوضها الجماعة البشرية، القبيلة مثلا، مع غيرها. ولم يكن التنقل بين البلدان للتجارة آمنا، فكانت الحركة في القوافل، وهذه القوافل – وإن كان مقصدها التجارة – فإنها تحتاج للقوة التي تدافع بها عن نفسها، ومعيار القوة بدني، والرجال – كما سبق – متميزون في هذا الأمر عن النساء في الجملة، ، فالحاصل أن مشاركة النساء في الحياة الاقتصادية وإن كانت موجودة، فإنها كانت تعتمد على الرجال. قبل البعثة الشريفة على سبيل المثال كانت السيدة خديجة عليها السلام تتاجر، ولكنها لم تكن تسافر في القوافل للتجارة، بل كانت توكل من يقوم عنها بذلك من الرجال. فبالقوة البدنية تميز الرجال عن النساء بأمرين: القتال، وسهولة الحركة للكسب. وبهذين الأمرين حصلت للرجال القوامة على النساء، وهي القوامة التي لم يؤسسها الشرع، وعللها القرآن بنفس الأمرين، في نفس الآية التي فيها قوله تعالى "واضربوهن." وهذه التراتبية (ولا يزال الكلام عما قبل البعثة الشريفة، في السياق الذي نزل فيه الوحي) أنتجت تصورا عاما أن المرأة أنقص من الرجل، والرجل أكمل من المرأة، وتفرع عن وجودها في المجتمع تراتبية بين الزوجين. فصار الزوج – الأكمل – مسؤولا عن زوجته ـ الأنقص – رعاية و"تأديبا" وغير ذلك، كرعايته للأطفال مثلا. في هذا الإطار كان الزوج يضرب زوجته، كضرب الرجل أبناءه، للتقويم والتأديب. هذا هو السياق الذي نزل فيه الوحي الشريف. والشرع – كما سيأتي – ليس مشروعا سياسيا، وليس مشروعا للتغيير الاجتماعي، وإنما طريقة لعبادة الله تعالى، تلك قضيته الأولى، ثم هو يقبل الواقع ويقيم أحكامه على أساسه. كما فعل في قضية الاسترقاق مثلا. والواقع قائم على التراتبية وعلى قبول الضرب. وفي هذا الإطار أجاز الشرع الشريف الضرب من حيث الأصل، ثم قيده، في ذلك الزمان. 

 

ومن السفه الزعم أن الضرب كان محرما في ذلك الوقت، أو أنه – كما زعم بعض السفهاء – كان مقتصرا على حالات "الخيانة الزوجية" أو الزنا. لأننا نعرف من الروايات حصوله عدة مرات. نعم: قبح النبي صلى الله عليه وسلم منه، ووبخ فاعليه، كما في قوله "لقد طاف الليلة على آل محمد سبعون امرأة يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم." ولكن لم يقل بحرمة الفعل. فالحاصل أن الضرب – وإن كان من شأن الأراذل، وممن ينفي الخيرية – لم يكن محرما.

 

القضية الخامسة: تقييد الشرع الشريف للضرب، في ذلك الزمان، كان من جهات عدة. أولها أنه جعل الضرب الذي هو انتقام أو انفعال أو عصبية أو الضرب في إطار شجار، جعل ذلك كله محرما. وأجاز الضرب المقصود به التهذيب والإصلاح بين الزوجين (وسيأتي تفصيل ذلك). النصوص الدالة بعمومها على حرمة الضرب الناتج عن الغضب والانفعال لا تحصر، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن استنصحه "لا تغضب." ثاني أوجه التقييد كان من جهة القوة، فحرم الضرب المبرح. ثالث أوجه التقييد هو تقبيح الضرب، ومن ذلك الأحاديث السابقة في توبيخ من يضرب ونفي الخيرية عنهم

 

الأهم في ذلك كله أنه، حيث أن الضرب المباح لم يكن الضرب الذي هو تنفيس عن الغضب، وإنما الهادف للإصلاح، أو "الحفاظ على الأسرة" في إطار تراتبية – لم يؤسسها الشرع ولم يأمر بها ولم يدع للحفاظ عليها، وإنما وجدها فأقام عليها إحكامه، كما سيأتي - بين الرجل والمرأة تجعل له التأديب. وحيث كان هذا الضرب استثناء من أصل عام هو حرمة الاعتداء على الغير، فصارت مشروعيته متوقفة على تحقق هذا المقصد: أن يكون من شأنه أن يؤدي للإصلاح. 

 

لذلك قال بعض العلماء – من القرن الخامس الهجري على الأقل – بحرمة الضرب. استدلوا بالآية ذاتها. وكانت حجتهم كالتالي: أولا: الأصل أن كل اعتداء على الغير محرم. ثانيا: الاستثناء من هذا الأصل مقيد، في الآية ذاتها، بمقصد واضح وهو تجنب النشوز. ثالثا: يبدو من النظر في أحوال الزمان – أي زمان هؤلاء المشايخ – أن هذا الضرب لا يؤدي لهذا المقصد، بل يؤدي لضده من زيادة الشقاق وإيغار الصدور. رابعا: حيث كان الأمر كذلك فإن الضرب لا يؤدي للمقصد الذي شرع من أجله (تماما، على سبيل المثال، كقولنا: ان الخيل لم تعد تؤدي نفس الغرض العسكري الذي شُرع إعدادها لأجله)، وبالتالي فإنه يفقد مشروعيته. خامسا: حيث كان الأمر كذلك، فإن الآية لم تعد دليلا على جواز الضرب، وبالتالي يعود الوضع لحالته الأصلية، وهي الحرمة.

 

 

القضية السادسة: ليس الشرع مشروعا سياسيا، ولم يأت للحفاظ على أوضاع اجتماعية بعينها أو تغييرها. هكذا تعلمناه من المشايخ، خلافا لزعم الإسلاميين وجل المعاصرين ممن تحول الإسلام عندهم لأيديولوجيا. والإسلام – في الوقت ذاته - يقدم نفسه باعتباره الرسالة والشريعة الخاتمة. لا يتصور عاقل أن الأوضاع الاجتماعية التي زامنت الوحي ستبقى خالدة، بل تغيرها قطعي. فكيف تنضبط علاقة الخطاب الشرعي الأخير، بالواقع المتغير، من غير أن نفهم الإسلام باعتباره أيديولوجيا، أو تصورا لكيفية التغيير؟

 

الكلام في هذا يطول، وقد فصّل فيه الشيخ خالد محمود في كتاب "أزالة الأوهام عن دين الإسلام"، وخلاصة ما قاله فيه – كما فهمته - أهمية التمييز بين الأحكام التعبدية والأحكام معقولة المعنى. أما التعبدية فهي التي لا مدخل للعقل في إثباتها أو تحديد شروطها وصفاتها، وأما الأحكام معقولة المعنى فهي التي يتعلق التكليف بمعانيها. وجل الأحكام التعبدية في العبادات (لذلك قانوا العبادات محل التعبدات)، ومثالها فرض صورة معينة للصلاة واشتراط طريقة معينة للطهارة المشترطة لها)، والقليل جدا منها في المعاملات، وجودها في المعاملات ليس هدفه بناء نظام اجتماعي معين، بل إظهار معنى الامتثال للشرع وتحقيق معنى العبودية بامتثال الأمر لمجرد كونه من الله، لا لمصلحة دنيوية يراها العقل. مثل تحريم الربا، مع كون بعض صوره متشابها للغاية، من حيث المعنى والثمرة الاقتصادية، مع بعض صور التجارة، حتى أن القرآن حين أورد اعتراضهم على التفرقة بين البيع والربا "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا" لم يجب عنه ببيان الفرق بينهما، وإنما قال "وأحل الله البيع وحرم الربا." ومثل ذلك في الخمر: تحريمه تعبدي، إذ لو كان معقول المعنى لكان القدر غير المسكر منه مباحا، وغير ذلك، وهو – كما سبق – في المعاملات يسير. أما الأحكام معقولة المعنى فهي جل المعاملات، كالأمر بإعداد الخيل للقتال، المقصود هو إعداد القوة، وأما الصورة المنصوص عليها فهي المناسبة لذلك الزمان ولا يشترط أن يبقى الوضع كما هو عليه ما تغير آلة الحرب. 

 

والحكم الشرعي "إما أن يظهر للعقل أن التكليف به يتحقق مصلحة دنيوية فيكون حكما معقول المعنى كوجوب إعداد القوة للعدو... أو لا يظهر للعقل مصلحة دنيوية في التكليف به فيكون حكما تعبديا... كوجوب الصلاة وحرمة أكل الخنزير. ومن جهة أخرى فإن الحكم إما أن يكون موضوعه أمرا أخرويا، وهو ما كان من جنس القربات كالصلاة والذكر، أو لا يكون موضوعه أخرويا بل دنيويا، وهو ما لكم يكن من جنس القربات كالأكل والبيع" (١٠٢). وحيث كان الأصل في المعاملات أنها معقولة المعنى، أجمع العلماء على "جواز استنباط علة للأحكام المعقولة بالمعنى، المتعلقة بأمور الدنيا، التي لم ينص الشارع عليها، والأخذ بمقتضى تلك العلة في العمل بالحكم المنصوص عليه عند وجودها، وترك العمل به عند عدمها" (١٠٩). أو، بعبارة أخرى، افترض الفقهاء أن كل أحكام المعاملات معقولة المعنى، تابعة لعلة متعلقة بأمور الدنيا، ولم يعتبروها تعبدية إلا حيث لم يجدوا العلة. واستنباط هذه العلة مبحث معروف وهام في أصول الفقه، وله مراتب منها دوران العلة المدعاة مع الحكم وجودا وعدما. وبناء عليه، ولأن الأحكام معقولة المعنى تهدف لتحقيق مصلحة معينة لا للحفاظ على صورة معينة، فإن الظروف التي شرعت فيها الأحكام المعقولة المعنى "تعد شروطا يلزم توفرها لكي تحقق تلك الصور تلك الأحكام المعاني التي شرعت من أجلها" (١٢٠).

 

والفرق هنا بين الأحكام التعبدية ومعقولة المعنى جلي. فالحكم التعبدي مقصود لذاته، ولذلك ينبغي تحصيل شرطه. الصلاة مطلوبة لذاتها، وشرطها الطهارة، وكل من وجبت عليه صلاة – لذلك – مكلف بالطهارة لها (بغسل أو وضوء أو تيمم، بحسب الحال). أما الأحكام معقولة المعنى فليست الصورة مطلوبة. فإذا انتفى الشرط، لا ينبغي شرعا السعي لإعادته، بل ينبغي العمل وفق الواقع الجديد. لا يحث الشرع – على سبيل المثال – للعمل على تغيير نظام الحرب ليعود لسابق اعتماده على الخيل. بل مثل هذا السعي – في كثير من الأحوال – لا يصدر عن عاقل. وإنما أمر الشرع بتحصيل أسباب القوة المتناسبة مع هذا الواقع الجديد. لا يأمر الشرع باستعادة النظام السياسي القائم على حكم الفرد، بل يأمر بالعدل، وهذا العدل، والبعد عن الاقتتال، في ظل النظام الفردي الذي كان قائما، تحققت بالأحكام الشرعية من طاعة الحاكم مثلا. وفي ظل إنتاج البشرية لنظم أخرى للحكم، كالديمقراطية التمثيلية مثلا، فإن السعي للعدل يتحقق بسبل أخرى. 

 

فحاصل ذلك كله أن الشرع جعل أحكامه معقولة المعنى التي هي جل المعاملات تابعة للمصلحة التي يقصدها، وأن الصورة في هذه الحالة هي صورة مشروطة بواقع معين تتغير بتغيره، "فالراغبون في الاستمرار على العمل بصور الأحكام المعقولة المعنى، والتي لم تعدد تحقق معناها، حفاظا منهم على أحكام الشرع، وورعا واحتياطا لدينهم، إنما يقعون في محظور أكبر، لأن الشارع شرع تلك الأحكام محققة للمصالح، وليست أحكاما تعبدية غير معقولة المعنى، فإذا لم تعد محققة للمصالح واستمروا مع ذلك على العمل بها، فإن ذلك يعني أنهم جعلوها أحكاما تعبدية خلافا للشارع، وأدخلوا في الدين أمرا تعبديا لم يجعله الشارع كذلك، فوقعوا في شر الابتداع في الدين" (١٣٤-١٣٥)

 

 

القضية السابعة: الضرب، كل الضرب، محرم الآن. ليس فقط للاعتبار الذي تحدث عنه بعض العلماء من القرن الخامس من أنه يؤدي للشقاق، ولكن لانتفاء الأصل الذي قام عليه، وهو التراتبية في العلاقة بين الرجل والمرأة. أسباب هذه التراتبية – كما سبق – هي تميز الرجل عن المرأة فيما يحفظ به استمرار الجماعة البشرية. القوامة، كما يقول الشيخ خالد محمود "من الإخبار القرآني المناسب لأحوال المخاطبين، كإخباره عن اشتهاء الناس للخيل المسومة واهتدائهم بالنجوم وسير سفنهم بالريح...ذلك كله وصف للواقع، تعاملت معه الشريعة على ما هو عليه، ولم تأمر به، ولا ببقائه على ما هو عليه، وإنما علقت أحكامه على بقاء صورته، فإذا تغيرت تلك الصورة زال محل الحكم، على ما سبق بيانه... وكانت للرجال على النساء كما ذكر القرآن بما فضلهم الله عليهن بما وهبهم من القوة التي يدافعون بها عنهن ويحموهن، وهو أمر يكون خاصا بالرجال طالما كان مقياس القوة بدنيا، أما في عصر الأسلحة الآلية التي لا يتميز الرجل عن المرأة في استعمالها فلا يكون الرجال مفضلين حينئذ" (١٦٠). وإباحة الضرب فرع تلك القوامة. فليس لها محل في علاقات تقوم بالأساس على التكافؤ، والأسرة هنا فرع المجتمع. فالأمر بالضرب " موافق لحالة المرأة وقتئذ، ولشكل الحياة الاجتماعي ككل...وخضوع المرأة التام لزوجها، وتأديبه لها بالضرب أو بغيره، كل ذلك كان من أعرافهم وعاداتهم، وكانت حياتهم تنصلح بذلك، ولا ترى المرأة فيه إهانة لها، وعلى هذا العرف بنيت تلك الأحكام، وقد تغير ذلك العرف، وصارت الحياة بين الزوجين تستقيم بالتعاون والمشاركة في العمل والإنفاق وتعلمي الأولاد وغير ذلك، وصار قهر المرأة وضربها ظلما وإهانة، وإذا تغير العرف إلى ما فيه مصلحة الناس وجب العمل به" (١٦١-١٦٢). الشرع لم يأمر بالوضع الأول القائم على التراتبية، ولا نهى عنه، وإنما أقام أحكامه على أساسه. 

 

 

القضية الثامنة: إيجاد مدخل لشرعية العنف باب شر وضرر ينبغي حسمه. يختلف الكلام في مثل تلك القضية عن الكلام في قضايا نظرية، أو لا يترتب عليها ضرر مادي مباشر معتبر على الغير. فإذا اختلف الناس – على سبيل المثال – في صحة حديث في البخاري، أو في حل الفوائد البنكية، أو في طرق استطلاع الهلال، أو في أحكام متعلقة بالصلاة والصوم، فإن الخلاف في هذه القضايا لا يترتب عليه ضرر ظاهر، والجدل العلمي فيها مفيد أحيانا. أما في مسألة كالعنف ضد المرأة، فإن عدم حسم هذا الأمر، واستمرار بعض الناس في الدفاع عنه، مع علمهم القطعي بأن الحالة التي شرع فيها لم تعد موجودة أصلا، يفتح الباب أمام مظالم لا تحصى. بحسب تقارير حديثة، فإن ما يقرب من ٨٠٪ من النساء المصريات يتعرضن لعنف أسري. لو شككنا في دقة هذه الأرقام، وافترضنا افتقارها الكامل للمعايير العلمية المنضبطة، وقدرنا أن النسبة الصحيحة هي ربع المدعاة (وهذه مبالغة شديدة كما لا يخفى) تكون النتيجة أن خمس النساء يتعرض للضرب. في أكثر السيناريوهات وردية وتفاؤلا تتعرض واحدة من كل خمس نساء للضرب. والمعتدي يجد في كلام من يترك الباب أمام العنف مفتوحا ذخيرة يستخدمها في تبرير عدوانه. والمتعرضات للضرب يكتمن قهرهن أحيانا ظنا أنه حكم الشرع، وإن لم يكتمن فقد لا يجدن نصيرا، لأن أهلهن، أو – في بعض الأحيان – مؤسسات الدولة، يكون تعاطفهم معهن ناقصا، لأنهم لا يرون المعتدي معتديا. نعم: قد يرونه مخطئا، لأنه اختار السلوك الأدنى لا الأرقى، لكنه عندهم ليس معتديا ولا مخالفا. هذا مع علم الكافة أن سبب الضرب هو الغضب، والعصبية، والعراك، وأن هذا الضرب هو الضرب المحرم اتفاقا في كل العصور. 

 

في كلامه عن حكم تناول القدر الذي لا يذهب العقل من بعض الأعشاب المخدرة قال الشيخ الباجوري "وأما القدر الذي لا يذهب العقل منه فلا يحرم" ثم أضاف "ولكن ينبغي كتم ذلك عن العوام." استوقفتني تلك العبارة التي لا أعرف لها نظيرا في كلام الشيخ. وناقشتها مرات مع بعض الأفاضل: لماذا يريد الباجوري كتم حكم مسألة شرعية يرى هو نفسه فيها الجواز؟ الذي يغلب على ظني انه فعل ذلك لأن تلك الصورة (تناول قدرا غير مذهب للعقل) لا يتوصل إليها غالبا إلا بطريق محرم، وهو تناول القدر المذهب، إذ لا يعرف الإنسان ابتداء هذا القدر، ولا يعرفه إلا بالتجربة. و"العوام" إذا عرفوا بجواز الصورة التي يتحدث عنها الشيخ، فإنهم – إما لقلة علمهم وفهمهم، أو اتباعا لرغبات في أنفسهم – سيتخذون تلك العبارة تكأة لصورة أخرى لا يرضاها الشيخ ولا يرى حلها. 

فكذلك: الصورة التي يدافع بعض المشايخ عن مشروعيتها للضرب ليس هي ضرب الغضب، بل ما كان مباحا في الزمن السابق بناء على التراتبية. وهذه الصورة – على افتراض أن جوازها لا يزال قائما، وهو ما لا أسلم به لتغير أساس العلاقة كما سبق، ولا معنى لمعاندة هذا التغير، لا على أساس تاريخي ولا على أساس أخلاقي ولا على أساس شرعي – أقول هذه الصورة ليست موجودة أصلا. بل الموجود، والمنتشر، هو العنف الناشئ عن غضب وكبر وشجار. فمجرد طرح مشروعية الأول (وهي – على أقل تقدير – محل شك كبير، والظاهر حرمتها) يفتح الباب أمام الثاني الذي هو حرام اتفاقا. فلا معنى له.

 

 

القضية التاسعة: رفض الضرب ليس موقفا شاذا. على مدار القرون – كما تشير سجلات المحاكم الشرعية – حكم القضاة بعقاب الأزواج حيث ثبت اعتدائهم بالضرب على زوجاتهن. اختلفت صور العقاب، من ضرب الأزواج، لسجنهم، لتغريمهم الأموال، بل لتطليق الزوجات عند طلبهن ذلك أحيانا. وعلى مستوى الإفتاء لم أقع على أي واقعة ذهب فيها شخص إلى مفت يستفتيه في جواز ضرب زوجته. ولم أقرأ أبدا – ربما لقصور بحثي – لفتوى لمفت أجاز لرجل ضرب امرأته. ولا أظن أحدا ذهب إلى مفت قط، يقول له أنه يفكر في ضرب زوجته ويستفتيه في ذلك. لأن الضرب لا يحصل امتثالا لحكم شرعي. ولكن المعتدي يتستر بستار الشرع تبرئة لنفسه عن الخطأ، فيضيف إلى جرمه بالاعتداء جرما آخر بالتلاعب بالشرع، وبنسبة ما فيه نفسه من قبح إلى الشرع الشريف. 

 

كنت في مرة قبل أكثر من عشر سنين أجلس في مكتب أحد شيوخي – رحمه الله تعالى  - نقرأ في كتاب. دخل المكتب رجل وامرأة يستفتونه في مسألة طلاق. سألته إن كان يريدني أن أغادر، فطلب مني البقاء. تركت مقعدي في الكرسي المقابل لمكتبه وجلست على مقعد في الخلف، وجلسا في الكرسيين أمامه. طلب الشيخ من المرأة أن تحكي له ما جرى والرجل يستمع. بدأت الكلام واسترسلت إلى أن قالت ان الرجل ضربها. قاطعها الشيخ – بصوت هادئ منخفض وبنبرة حاسمة – قائلا "ثانية واحدة من فضلك." ثم استدار للزوج وسأله – بنفس الهدوء والنبرة – "إنت ضربتها؟"...بدا على الزوج الاضطراب والانفعال وبدأ يتكلم عن استفزازها له. قاطعه الشيخ – بنفس الحزم، وكأني أسمع صوته الآن بعد حوالي ١٢ سنة – قائلا: "أنا سألتك سؤال واضح، ومطلبتش منك تفسر. ضربتها؟" أجاب الرجل على الفور "أه"، فقال الشيخ، في نفس اللحظة، وبنفس الهدوء والحزم والصوت المنخفض "تبقى خول. اللي يضرب مراته يبقى خول." ومرت لحظة صمت، ثم التفت الشيخ إلى السيدة قائلا: "أنا آسف على المقاطعة. اتفضلي حضرتك." فأكملت ما كانت ترويه. أذكر أني وقتها استنكفت تصرف الشيخ ورأيت فيه حدة لا تليق، وربما إهانة وتجاوز في حق الرجل وتنقيصا منه أمام زوجته. ثم بدا لي أن تلك الأخيرة ربما كانت هي عين مقصده: أن يفقد الرجل ما يتصور به أنه مستحق لضرب زوجته، ليقطع دابر هذا الأمر. 

 

القصد أنه – في القديم والجديد- اتخذ المشايخ (أو بعض المشايخ على الأقل) موقفا مضادا للعنف، هادفا لإنهائه. ويبدو لي أن ما يحول دون بعضهم ومثل هذا الموقف ليس الحكم الشرعي، ولكن شعورهم – عن حق أو عن باطل – أن الإسلام/الشرع تحت التهديد، وأنهم يدافعون عنه، ولذلك يتخذون موقفا دفاعيا. الاعتبار الأساسي فيه ليس رفع الظلم والحد من العدوان، ولكن مواجهة من يتصورونهم يحاربون الشرع. بل أظن – وليس كل الظن إثم – أن بعض من يدافع عن الضرب، أو لا يتخذ موقفا حاسما حياله، إذا جاءه من يستفتيه في ضرب وقع يطلب منه أن يبرره له بإباحته، فلن يختلف رده كثيرا (من حيث المضمون والمقصد على الأقل) عن موقف شيخي رحمه الله تعالى. لكن الكلام العام ييسر تصور المسألة نظرية، وييسر تناسي أن الاعتداء المادي يقع بالفعل، على أناس حقيقيين، وأن المسألة ليست جدلا نظريا، أو مناظرة فكرية، فحسب. 

 

القضية العاشرة: للأسباب السابقة أعتقد أن واجب المشايخ والعلماء الأخلاقي أن يبادوا بدعم سن قانون يجرم العنف ضد المرأة. كان المفترض أن يكون المشايخ في طليعة المطالبين بهذا الإمر، كما فعل شيخ الأزهر من سنتين، ولكن سبقهم غيرهم إليه. فينبغي عليهم أن يبادروا بنفي التهمة عن أنفسهم، أمام الله تعالى أولا، ثم أمام الناس، من أنهم بمواقفهم يساهمون في تمكين المعتدين من الاعتداء...من أنهم يناقضون الموقف البكري من الوقوف في جانب الضعيف لحين أخد الحق له، والوقوف في مواجهة القوي لحين أخذ الحق منه، يناقضونه فيعينون – بكلامهم وسكوتهم – القوي على الضعيف: المعتدي على المعتدى عليه. 

 

القضية الحادية عشرة: سن قانون يجرم العنف ضد المرأة ضروري غير كاف. لن ينصلح الوضع بغير القانون، ولا يكفي القانون بغير إجراءات أخرى، كتنفير المشايخ الناس من الضرب – كما سيأتي. وهذا القانون – مع كونه ضروريا – ينبغي النظر إليه بتوجس. فالنظر في التاريخ القريب مقلق، لأن المشرع المصري، والقائم على تنفيذ القانون، يتوسع جدا في استخدام العقوبات السالبة للحرية. كل من يقع منه خطأ يواجه السجن: نساء فقيرات يعجزن عن سداد ديونهن فيكون مصيرهن السجن، وطبيب يقع منه خطأ مهني تحاسبه المحكمة لا النقابة ويدخل السجن، وصانعة حلوى تزينها بصور يراها القائمون على تنفيذ القانون خارجة فيأمرون بحبسها، ورجل يدعي كذبا أنه تزوج عشرات المرات فيكون عقاب تلك الدعوى السجن، وكاتب يقول كلاما سفيها يفتقر للعلمية في الكلام عن صحة أحاديث البخاري فيحكم بسجنه. وإذا كان الحسم في مواجهة العنف الأسري ضروري، فإن التوسع في السجن، مع كونه جرما اجتماعيا في ذاته، من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية. 

 

 

القضية الثانية عشرة: لا ينبغي أن يقتصر دور المشايخ والعلماء والوعاظ على الجانب "القانوني" و"التشريعي" للضرب، أو ما يترتب عليه من عقوبات دنيوية. بل ينبغي أن يذكروا الناس بربهم، وأن يخوفوهم نتائج الاعتداء على الغير. كان أحد المشايخ – رحمه الله تعالى – يحدثنا مرة عن قوله تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فيقول في قوله تعالى "وآثارهم:" هذه الآثار هي النتائج التي لا تراها بالضرورة لأعمالك. فإن وقع منك مثلا انفعال واعتداء لفظي على مرؤوسك، فهذا منتهى ما تراه وما تعرفه، وإذا ندمت فهذا ما تندم عليه، ولكنك تغفل عن الأثر. فهذا المرؤوس قد يكون لبيته متأثرا بما وقع منه تجاهه وبعجزه عن الرد عليك حرصا على مصدر رزقه، وبسبب ضغطه ينفجر عند أول احتكاك مع زوجته أو مع ابنه. يتشاجر مع زوجته، وربما يطلقها في غضب، أو يسيء إليها، أو يضرب ابنه، أو يكسر بخاطره، وربما كانت نفسية هؤلاء لا تقوى على مثل هذا، فيؤثر هذا في حياته. هذا كله من آثار الاعتداء الأول الذي وقع منك، تلك الآثار التي لا تراها ولا تحصرها. كان الشيخ رحمه الله تعالى يقول: لو كانت العقوبة على تلك الآثار يوم القيامة هي فقط أنك تراها، فكفى بها عقوبة. أن ترى كيف أدى فعلك إلى أذية متعدية، غفلت عنها حتى مع توبتك عن الاعتداء الأصلي، وسعيك لمعالجته بجبر خاطر المرؤوس في اليوم التالي مثلا. فكذلك: الضرب، بخاصة الضرب الموجود الذي هو انتقام وعصبية وفرض للقوة، أكثر من أي وقت مضي (في ظل علاقات قائمة على التشارك، منشؤها التعليم، والمواطنة، ونظام الدولة، والتشارك في العمل، وغير ذلك)، مهين، ويتسبب في أذى نفسي كبير، يبقى أثره – غالبا – طيلة حياة المعتدى عليهن. وهذه الآثار النفسية قد تمتد للغير كذلك. مثل هذا ينبغي التحذير منه. هذا المتروك الواسع، الذي هو محل اتفاق، والذي ينمي تناوله الأخلاق، ويهيئ العبيد للوقوف بين يدي الخلاق، هو أولى للمشايخ أن ينتبهوا له من الدفاع عن الاعتداء بدعاوى فقهية هي، على أقل تقدير، ومع التنزل وافتراض صحتها، هي محل خلاف.   

Comments

Popular posts from this blog

المستشار طارق البشري

ولاية المرأة