المستشار طارق البشري


 


ثمة شيء غريب في رؤية من نحب في الكفن

شيء مؤلم، وحزين، لكنه أيضا غريب، لأننا نراهم ولا نراهم. رؤيتهم في الكفن ومتابعة الكفن بالعين وهو يتحرك إلى القبر ثم يغيب فيه هي تصديق خبر انتقالهم، وتحوله من معرفة لمشاهدة، من حق اليقين لعين اليقين. ولكن الكفن حجاب، ورؤيتهم فيه من غير وداعهم قبله تترك مساحة من عدم التصديق، أو – بالأحرى – من عدم الفهم.

 

"طارق البشري في ذمة الله"..."مات طارق البشري" 

تلقيت هذه الرسائل صباح اليوم ٢٦ فبراير

أما الموت...

فأعرف معناه، وقد كثرت زياراته وتخيره من الأحباب أخيرا، ثم هو أطل برأسه قبل أيام، حين ساءت حالة البشري الصحية، ثم حين تدهورت في الأيام الأخيرة أصبحت إضافة اسمه للموت حتما وشيكا، وكان الموت يقترب بخطى ثابتة، فلم يكن خبر الموت مفاجئا، بل كنت في اليومين الأخيرين انتظر تلك الرسالة التي أخشى مجيئها 

 

وأما المستشار طارق البشري... 

فهو في مخيلتي إنسان بحجم الزمن، لا أعرف معنى إضافة اسمه للموت

 

**

 

أحب القراءة عمن أحب وسماع أخبارهم، وأحب معرفة سيرهم بدءا من طفولتهم لتصور مساراتهم في الحياة. كذلك فعلت مع البشري مرات كثيرة: اقتطف كلمة يقولها عن طفولته أثناء حديثه فأحاول تصوره فيها، فأتصورها ولا أراه فيها طفلا أو صغيرا، لا أراه فيها إلا كما عرفته، كأنه ولد هكذا على هيئته وحكمته. كأنه ولد كبيرا، فلم يكبر، لم يتغير، ولم يكن ينبغي – لذلك – أن يرحل. أو هكذا ظننت. كانت نيتي أن أزوره بعد انحسار الوباء، لم أفكر فيما قد يعكر ذلك، فكأنني كنت مطمئنا لوجوده كما كنت مطمئنا بوجوده.

 

لا أتصور المستشار البشري إلا بصورته التي عرفته عليها: بابتسامته الهادئة وهو يرحب بضيوفه أو يكلمهم ويسأل عن أخبارهم، أو نظره العميق وهو يستمع، مائلا للأمام قليلا من غير انحناء، متكئا بيده على فخذه، وفي يده المسبحة، مطرق النظر، إذا انتهيت من الحديث مرت لحظات أخرى من الصمت يفكر فيها، فإذا تكلم كانت كلماته قليلة، موزونة، واضحة، يقولها بصوت هادئ منخفض. 

 

يستضيف من هو دون أولاده، ويسمعهم، "أناقشه" بأفكار متسرعة أو غير مكتملة، فلا يضيق صدره، بل يستمع لكلامي كقاض في محكمة: ينصت لكل كلمة كأنما يقلبها في رأسه وينظر احتمالاتها، ولا يتسرع بالكلام للرد، بل يريد المتكلم أن يتم كلامه، وإن كان هذا الكلام – كما أراه الآن بعد عقدين تقريبا، وكما كان يراه هو قطعا في حينه – سطحيا أو – على أحسن تقدير - بدهي. يسمع، ويناقش ويفرض عليك الجدية والاحترام لأنه يعاملك بهما. تماما كما كان يسمع، في تلك الندوة التي عقدت بجمعية مصر للثقافة والحوار في أعقاب العدوان الصهيوني على غزة في ٢٠٠٩، لرجل قاطعه خلال كلمته، ثم استمر ذلك المقاطع يتحدث أكثر من عشر دقائق، يبين فيها تصوره لجوهر الصراع وحقيقته، والمستشار البشري – في مقعد المتحدث – يستمع ويدون الملاحظات ولا يتأفف من طول المقاطعة وبداهة ما يقوله الرجل. كنت أجلس يومها على يسار الدكتور سليم العوا، فلما طالت المقاطعة همست في أذنه أننا لم نأت لسماع رأي ذلك الرجل وإنما عقدت الندوة لسماع البشري، حينها قاطع الدكتور العوا الرجل مطالبا إياه بالسماح للمستشار البشري أن يتكلم أولا ثم يسأل ما أراد في فقرة الأسئلة...وحينها فقط، لما سكت الرجل من غير أن يسكته هو، عاد البشري للكلام، ولا أذكر إن كان قد عقب على كلام ذلك الرجل أم لا.

 

يسمع بإنصات في كل سياق، ويناقش ويتداول الأفكار، كأن القضاء لم يكن له مهنة فحسب، بل كأنه ولد للقضاء: يسمع الكلام ويمحصه ويدقق فيه طلبا للعدل، ثم ينطق بكلمات قليلة، كأنك تراه يزنها قبل أن ينطق بها، كأنها الحكم يريده عادلا وإن لم يكن من فوق المنصة.  

 

الآن قد رحل. 

 

***

المبالغة في المديح قبيحة، وإن كانت معتادة في الرثاء.

 

قبيحة لأنها تصعد بالممدوح درج الكمال، فتخرجه من ذاتيته إلى عمومية الكمالات المنسوب إليها، فإن كنت تقصد بالمديح شخصا معينا فالمبالغة في مدحه تمحوه، ويصير استبدال كلمة قيلت فيه، بكلمة قيلت في غيره، ميسورا. ويمكن وقتها بقصيدة واحدة، أو بكلمة واحدة، مدح كل المبالَغ في صفاتهم. 

 

وقبيحة لأن المبالغة تبدو كسعي لستر بعض العيوب، لا أقصد بالعيوب النقص، فهو من طبيعة الإنسان، وليس فيه ما يوجب الخجل أو الستر، (من ذا الذي ما ساء قط؟ ومن له الحسنى فقط؟)، وإنما الذي يدفع إلى المبالغة في المديح الرغبة في ستر عيوب حقيقية، في التشويش على حقائق أخرى، يشهد بذلك تراث طويل من مدح الملوك الظالمين والمبالغة فيهم. 

 

وقبيحة أيضا لأنها تخلق حاجزا بين الممدوح والمستمع، تصنع من الممدوح ملاكا لا يشبههم، فلا تصل أخباره أفئدتهم، ولا يتصورون أنفسهم مكانه، يصنعونه أسطورة ويصعدون به أعلى عليين، فإن بدا لهم منه خلاف ما يريدون هبطوا به أسفل سافلين

 

وتكون المبالغة أشد قبحا إن كانت في حق من يرى نفسه عاديا. لا يتصرف إلا على هذا الأساس. حتى أنه ليوهمك وهو يفعل العظائم أنها ليست إلا أمورا عادية، وتضطر – طالما كنت في حضرته – للتصديق، حتى يفاجأك غيره بما تراه منهم فتدرك استثنائية ما رأيته منه، وبضدها تتميز الأشياء

 

قرأت يوما كتابا جمعت فيه كلمات ألقيت في ندوة تكريم للمستشار البشري بمناسبة بلوغه سن التقاعد، اختتم الكتاب كالندوة بكلمة البشري يعقب فيها ويشكر المتكلمين قبله. في الكلمة بدا البشري غارقا في خجله، قال كلاما ليس عندي نصه الآن، لكن أذكر منه ثلاثة أمور، أولها قوله – بعد شكر المتكلمين – أنه شعر أنهم يتحدثون عن غيره لما سمع مما رآه مبالغة في كلامهم، وثانيها حكايته أنه بعد تخرجه من الجامعة لم يكن يعرف إن كان يصلح للقضاء والنيابة أو لا، فذهب لزيارة ضريح جده الشيخ سليم البشري (شيخ الأزهر) وصلى ركعتين ثم تذكر دعاء سيدنا موسى في سورة القصص (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين)، ودعا الله ألا يتعرض في حياته لابتلاءات ومحن تفوق صبره، والثالثة قوله تعقيبا عن ذلك أنه قبل بلغ سن التقاعد بيسر من غير أن تمر عليه اختبارات صعبة. 

 

يرى أنه لم تمر عليه اختبارات صعبة، ويرى كل من يعرفه، أو يعرف الأحكام التي أصدرها غير ذلك. أصدر – فيما أذكر، وقد لا يكون توصيفي دقيقا – حكما بإلغاء قرار رئيس الجمهورية بإحالة مدنيين للمحكمة العسكرية لما في ذلك من تعسف، وحكما بإبطال التمديد لرئيس مجلس إدارة الصحف القومية، وغيرها من الأحكام التي رأى فيها العدل في غير جهة القوة، وفي غير تصرف الحكام، فأصدر حكمه ضد الحكام. أصدر تلك الأحكام بعادية، لم يصدرها أو يذيلها بخطبة عصماء تستدر المديح. كان أثر سيف المعز وذهبه باديا على غيره، لكنه لم يتأثر به، ولم يعتبر عدم التأثر منقبة لأنه لم يلتفت لوجود السيف والذهب. شغل نفسه بوظيفته: النظر في الأوراق والبحث عن العدالة، فلم ير المعز ولا سيفه ولا ذهبه، ولم ير أنه قد اختبر. كان ما فعله في نظره عاديا، فكان تعجبه من المدح. 

 

كان طارق البشري (والكلام عنه بصيغة الماضي غريب مؤلم) عاديا، لكن عاديته، وتلقائية فعله، لم تكن كعادية غيره. لم أر تلك "العادية" في صنع الأمور غير العادية إلا في اثنين لا ثالث لهما: المستشار طارق البشري، والشيخ عماد عفت، رحمهما الله تعالى وجزاهما عن عاديتهما خيرا

 

 

**

المبالغة في المديح قبيحة، وأما ذكر محاسن الراحلين فحسن

 

إذ ذكرها، مجرد ذكرها، هجاء لما صار عاديا، وتذكرة بالعادية التي ينبغي أن تكون

 

أن تسمع طارق البشري يتكلم – سواء اتفقت أو اختلفت معه – ثم تسمع قاضيا ينطق بالحكم في محكمة، يرفع المفعول ويخفض الفاعل وينصب المبتدأ، يخطب حيث ينبغي أن يحكم، ويعبر عن رأي سياسي حيث ينبغي التجرد عنه، ويسوق للحكم حيثيات ينقض أولها آخرها، فيكون حينها مجرد سماع البشري تذكرة بالعادي الذي ينبغي أن يكون، وبقبح العادي الكائن

 

أن تقرأ كتابته في التاريخ، فترى – سواء اتفقت أو اختلفت مع رؤيته للتاريخ - التدقيق والجدية في البحث، كأن موضوع البحث موضوع قضية لا يريد الحكم فيه إلا وقد محص كل حجة لكل طرف، أن ترى ذلك ثم ترى بعض الأحكام تصدر بإعدام المئات في جلسة واحدة، أو بحبس أطفال يُعتذر عن الحكم بحبسهم بعد ذلك بالخطأ في الأوراق، أو بإعدام أناس ماتوا قبل الوقائع المنسوبة إليهم بأشهر وسنوات، فحينها تكون قراءته تذكرة بالعادي الممكن...الجدية الممكنة، والإنصاف الممكن، الذي يستطيعه (أو ينبغي أن يستطيعه) كل واحد.  

 

أن ترى اتساع معرفته، وحرصه على الحقائق لا الصور (أذكر مرة أن الحديث ساقنا إلى الكلام عن طلب المعرفة. فأخبرني أنه في وقت ما شعر بحاجته لمزيد من المعرفة الاقتصادية، فتقدم للحصول على دبلومة في الاقتصاد، ثم انتهى من المذاكرة قبل الامتحان بمدة، فرأى أنه قد حصل مراده، وبدل انتظار الامتحان تقدم لدراسة فرع آخر للمعرفة، لم يكن يشغله كثيرا تحصيل مزيد شهادات وإنما كان مقصده تحصيل العلم)، فذاك في ذاته هجاء للسطحية والتسرع.

 

ذهبت مرة لزيارته مع أستاذتي، فقالت له مازحة: "الله يسامحك بقة يا سيادة المستشار أنا زعلانة منك أوي"، فلما سألها عن السبب، قالت: أصل أنا بقرأ لحضرتك فكان عندي انطباع بسببك إن القضاة ناس مثقفين وعندهم دراية واسعة ومعرقة، فبناء على كدة رحت لفلان (وكان قد رشح نفسه لمنصب سياسي) فلقيته مفيش خالص"

 

فليس هجاء ما صار عاديا – وهو هجاء في محله - ثمرة وحيدة لذكر محاسنه من غير مبالغة، بل عاديته تذكرة بالممكن. بما ينبغي طلبه. بمعيار قريب لرجل عاش يطلب العدل، فأجتهد فيه وأصابه مرة بعد مرة، وأجتهد في طلبه في كتابته، 

 

 

**

 

ليس هجاء ما صار عاديا، أو التذكرة بما يمكن أن يكون عاديا، وحده سبب ذكر محاسن الراحلين. فبعض الذكر محض محبة. 

 

والحزن على فراق الأحبة في بعض جوانبه هو حب لم يجد سبيلا، ولم يجد من يستقبله لغيابهم. وفي ذكر الراحلين ومحاسنهم سلوى، تزيح بعض هذا الحزن أو تخفف وطأته

 

ويعكر هذا الذكر وقتها المقارنة، فلا يصح أن يكون ذكر الراحلين وسيلة لتذكر الباقين ممن لا يحسن ذكرهم في أي وقت

 

**

 

طلب العدل هو أفضل مدخل لفهم طارق البشري

 

والعدل مقصد واسع، له أبواب شتى، قصده البشري من أبواب متفرقة، كقاض، ومؤرخ، ومفكر.

 

أما القاضي: فبحكم عمله في مجلس الدولة، قام تصوره للعدل على منع السطلة التعسفية للحكام، وإخضاعهم للقانون، وحماية الأفراد من سلطة الحكام وصيانة حرياتهم، عاهد الله بما أنعم عليه ألا يكون ظهيرا للمجرمين فلم يكن 

 

وأما المؤرخ: فللمرء أن يتفق أو يختلف مع الجهة التي ينظر منها للتاريخ (وأنا أختلف معها)، ولكن لا يمكن لمنصف أن يخطئ طلبه للعدل، ويكفي في ذلك مقدمة الطبعة الثانية من كتاب الحركة السياسية في مصر. فبعد أن تغيرت أفكاره بين الطبعتين الأولى والثانية، لم يغير في متن الطبعة الثانية وإنما كتب لها مقدمة من ثمانين صفحة، ينتصف فيها من نفسه، وينتقد منهجه في البحث، ويبين سبب الخطأ الذي يرى أنه وقع فيه، وفي مقدمة كتابه ثورة يوليو والديمقراطية كتب " لقد دعوت الله تعالى وأرجوه أبدا، أن أكون لا على ملك أحد من الناس، وأن أكون على حكم ملكه تعالى، ورجوته وأرجوه أن يبقي على ملكي التام تلك المساحة الصغيرة التي لا تجاوز حجم الحصاة والتي تقع بين سن القلم وسطح الورق وأن يبقيها لي حرما آمنا لا تنفتح لغير النظر والفهم، ولا تنفتح لدخل أو غصب أو غواية، وفي النهاية يرد الصواب والخطأ: صواب مجتهد وخطأ مجتهد. اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني على قسم فيما لا أملك مما زاغ عنه البصر أو غفل عنه الخاطر أو ند عنه الفكر أو قصر عنه الفهم." 

 

وأما المفكر فلم يمنعه ما تعرض له من إساءة بعد رئاسته للجنة التعديلات الدستورية في ٢٠١١، لم يمنعه ذلك من البحث عن العدل بعيدا عن التحيز إلى فئة، فكتب ينتقد من اتفق معهم من قبل، ويتفق مع من كانوا قد تطاولوا عليه، من غير أن يتعاون معهم، لما رأي فيها قالوه في موقف معين الصواب...قال في مقدمة بعض ما كتب في تلك الفترة "لم يبق لي قول الحق صاحبا" أو ربما قال حليفا. ولكن قول الحق والسعي إلى العدل ولين الجانب وعزة النفس أبقت له – والله – في القلوب حبا جما. كنت أعرف ضيقه وتألمه الشديد مما يتعرض له من السفاهات، وتأبى نفسه أن يتكلم فيه وأتحرج من أن أفاتحه فيه ولو للتخفيف عنه، ولم يؤثر ذلك على مواقفه وإنصافه، وذلك عزيز جدا. 

 

**

المستشار طارق البشري قاض يبحث عن العدل، لا يمكنك أن تعرف الحكم قبل أن ينطق به، لأنه – هو نفسه – لا يعرفه قبل أن ينتهي من محاججة الأفكار

 

بعض الناس يتصور حلول المشكلات الفكرية تكمن في مدخل واحد. ترى بعضهم يفسر كل ما جرى ويجري في بلادنا بكلمة واحدة: الاستعمار. وترى غيره لا يرى فيما يحصل في بقاع العالم المتفرقة سوى المؤامرة المزعومة على مصر، وبعضهم لا يرى غير صراع اقتصادي ميكانيكي بين قوى محددة سلفا بشكل واضح الخير فيها والشر لا لبس فيهما. هؤلاء جميعا عندهم الحلول الحاسمة، والإجابات المعدة سلفا. كلامهم مكرر بليد: قد تعجب به في المرة الأولى، وترى فيه بعض وجاهة في الثانية، غير أنك بعد ذلك تمله، ثم تشمئز منه، ثم يتحول فقرة ترفيهية: أن تعرف رأي فلانا في قضية معينة من قبل أن تُعرض عليه. 

 

لم يكن طارق البشري من هؤلاء، بل كنت تجد عنده في كل مرة ما تستفيد به منه

 

أرى رأيا غير الذي يراه المستشار البشري في الدولة ودورها وأهميتها

 

المستشار البشري، لأسباب بعضها شخصي، وبعضها جيلي (كون وعيه قد تشكل كما يقول هو في أعقاب ثورة ١٩١٩، واكتمل مع دولة التحرر الوطني)، وبعضها مهني (بحكم عمله في القضاء الإداري الذي يحد من تغول السلطة ويضبط ممارساتها) يؤمن بدولة التحرر الوطني ويعول عليها كثيرا. وكان عنده ـ إلى سنين قليلة مضت – إيمان بأن القضاء وإن كانت فيه مشكلات فإن حل مشكلاته يأتي من داخله لا بالتدخل فيه من خارجه، حتى أنه اتصل بي مرة يعاتبني ويناقشني في مقال كنت قد نشرته فيه انتقاد لبعض الممارسات. 

 

وأنا كذلك، لأسباب بعضها جيلي، وبعضها مهني، وبعضها شخصي، ليس عندي ذات التعويل على الدولة، ولا على القانون. 

 

وبسبب هذا فقد تناقشت مع المستشار البشري كثيرا (لكرمه في وقته)، في قضايا تتصل بالقضاء، وبالشريعة، وبالموقف من بعض الأطراف والأشخاص، فلم يكتف بأن كان كريما في وقته وأخلاقه فتقبل اختلافي معه – وأنا دون أولاده، بل كما كان يقول "بين منزلتي الابن والحفيد" – بل كان أكثر كرما، فلم أغادر منزله في يوم من غير أن استفيد من أفكاره، وأرى وجهة نظر لم أكن قبل زيارته أراها، واستمع لحجة لم أكن قبل خبرتها، حتى في القضايا التي كنت أظن أني أعرف موقفه فيها تماما كنت أسمع منه فيها زوايا أخرى في التناول والتفكير.

 

فهو قاض يبحث عن العدل، يتقصاه، عنده أسس ثابتة ينطلق منها في التفكير كإيمانه بدولة التحرر الوطني، وعنده مع ذلك ثواتب لا يحيد عنها تتعلق بالكرامة، والديمقراطية، والحريات، والاستقلال. 

 

**

بعض ذكر الراحلين محض محبة

وإذا ذكرت المستشار طارق البشري، فسيكون أول ما أذكره (وأرجو أن يبقى كذلك) هو المستشار طارق البشري، لا أفكاره، ولا أموره العادية-غير-العادية، ولا بحثه عن العدالة، وإنما المستشار طارق البشري

 

أكثر الناس تواضعا وكرما، وهو مع ذلك أكثرهم عزة نفس. 

 

لم أكتف بأن فرضت نفسي ضيفا على المستشار طارق البشري مرات لا أحصيها، بل كنت أيضا أدعو الناس لزيارته، وأفرض عليه معي ضيوفي، فكان كريما معهم ككرمه معي، لم يبخل علينا، وكانت صحبتي إليه في بعض الإحيان ممن هم مثلي ممن هم دون أولاده، بنصحه ولا بوقته. 

 

ولا يقبل مع ذلك على نفسه أقل إساءة، يحترم نفسه ويعرف كيف يدفع عنها، ولا يشغل نفسه بالصغائر. قرأت يوما مقالا يسيء إليه بجملة أكاذيب، فكتبت مقالا يرد عليه، فلما نشر اتصل بي يشكرني أولا على ما كتبت ويعاتبني ثانيا أني شغلت وقتي بما لا ينبغي الانشغال به

 

أول ما أذكره هو طارق البشري، بجانبه الصوفي الذي تجتهد لكي ترى منه شيئا، فإن سلطت عليه سيف الحياء فتكلم فكلامه فيه يسير، وهو كلام المحب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمعه الله تعالى به وأسعده بصحبته.

 

**

 

ولا يضير البشري أن بعض الناس لم ير ذلك كله، ولم ير إلا معركة سياسية، لم يكن المستشار البشري طرفا فيها من الأساس، وإنما أوقدت نارها على وثيقة ساهم في إعدادها لعرضها على الاستفتاء. فعدم الرؤية سببه عيب الرائي لا المرئي، والشاعر يقول:

 

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد، وينكر الفم طعم الماء من سقم

 

**

منذ تشكل وعي الإنسان وإدراكه لحقيقة الموت، فإنه يدرك أنه إن عاش، فإن أياما ستمر به لا يريدها، بل قد لا يطيقها، هي أيام فراق من يحبهم إن رحلوا قبله. ومع الوقت يزداد الأحبة، ومع الوقت يألف المرء الفراق برحيلهم. ثم يفاوض القدر، فكأنه يقول له: ابق لي هؤلاء فإني لا أطيق فراقهم، أو أجل رحيلهم لأبعد مدى، فإن في بقائهم الخير، وتجتمع برحيلهم مصائب ثلاث: حزن الفقد والرحيل، وغياب الناصح والمستشار، وتراجع معيار الصواب ودليل إمكانه

 

ولا شك أن المستشار طارق البشري ممن تجتمع بفقده تلك المصائب، ولو أن الأقدار بيدي لاخترت بقاءه أطول، ولكنها أقدار الله تعالى، وتصرفه في ملكه، يفعل ما يريد، لا راد لقضائه، ولا مبدل لحكمه، فلا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. ألهم الله تعالى أهله وأحبابه الصبر، وجمعنا به في خير صحبة وخير مكان. 

 

Comments

  1. أجمل ما قرأت في رثاء الراحل العظيم

    ReplyDelete
  2. أحسنت، رحمه الله وتقبله في الصالحين وأسكنه فسيح جناته وجزاه عنا خير الجزاء

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

العنف ضد المرأة

ولاية المرأة