ولاية المرأة

نشرت هذا الكلام على فيسبوك في مارس ٢٠٢١، تعليقا على الجدل حول مقترحات تعديل قانون الأحوال الشخصية، والتي تضمنت تقييدا (أو استمرار تقييد) لولاية المرأة على نفسها، وتأكيدا على تبعيتها للرجل في التنظيم الاجتماعي

----


التذرع بالدين لتبرير الظلم، خاصة إن جاء مما يؤمن بالدين، إن لم يكن قصورا في الفهم، فهو سوء أخلاق وقصور في النظر.
أما القصور في النظر فلأن جعل الدين في جهة الظلم وإن كان يقوي من الظلم بشرعية الدين مؤقتا، فأنه يؤدي للفظ الدين مع الظلم حتما، لأن المظلوم الذي يجرد عن حقوقه باسم الدين لن تكون لديه في الأغلب طاقة نفسية وعقلية، وليست مهمته أصلا، أن يحلل صور لي عنق النصوص الشرعية، أو أخراجها من سياقها لتبرير المظالم
وأما سوء الأخلاق فمن يفعل ذلك يسعى للحفاظ على أوضاع يتميز فيها عن غيره، ثم حين يواجه بالسؤال عن سبب هذا التميز، فلا يجد إجابة ويريد مع ذلك الحفاظ على امتيازاته، يختبئ خلف الدين، لما له من جلال في نفس المستمع، إن كان المستمع مؤمنا به، أو لما في ذلك من ترهيب المستمع وإقناعه بالسكوت عن حقه، إن كان للدين هيبة عامة اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك.
هذا - في ظني - هو ما يحدث في النقاش حول قانون الأحوال الشخصية المقترح
لا يشك عاقل أن ما يقترحه هذا القانون من حد من ولاية المرأة على نفسها، وعلى أولادها، ووضعها إجمالا في درجة لا فقط مغايرة للرجل، بل هي قطعا أدنى منه، هو ظلم اجتماعي.
وهذا الظلم يروج له باستخدام نصوص شرعية، سواء من المصادر الأصلية للشرع أو من نصوص الفقهاء، وهي النصوص المتعلقة بالقوامة على سبيل المثال.
وهذه النصوص موجودة، والتطبيق التاريخي لها على النحو الذي يحكيه هؤلاء موجود أحيانا، ولكن ذلك كله لا يصلح سببا للنص عليها في القانون المقترح.
بيان ذلك أن الشرع لم يأت مؤسسا لأوضاع اجتماعية، ولا مدافعا عن بقاء أوضاع بعينها. وإنما تعامل في غير الأحكام التعبدية (وهذه الأحكام التعبدية قليلة جدا خارج إطار العبادات) مع الواقع على ما هو عليه، وبنى عليه أحكامه، من غير أن يأمر بإبقاء هذا الواقع، ولا بتغييره. أي انه حين تناول هذا الواقع فإنما تناوله بالوصف، فكان تعامله معه descriptive, not prescriptive كما يقول بعض المشايخ "لم يأمر الشرع بإبقاء الواقع في شيء مما ذكر، ولا في غيره من التكاليف بالأمور المعقولة المعنى."
ثم علق الشرع بعض الأحكام على هذا الواقع، فإذا تغير الواقع (ولا مانع من السعي لتغييره، وهذا التغيير حتمي في جل المسائل الاجتماعية)، تغير الحكم تبعا له.
والواقع أن علاقة الزواج وقت نزول الشرع، كعلاقة الرجال بالنساء في المجتمع إجمالا، لم تكن تقوم على التكافؤ، وهذه مسألة اجتماعية لا شرعية، لم يأمر الشرع بها، ولا أمر ببقائها، ولا أمر بتغييرها، بل تركها للمجتمعات وللزمن، ولكنه علق أحكامه على بقاء هذه الصورة، يعني كأنه قال: طالما بقي الوضع هكذا، فالحكم هكذا. فإذا تغير الوضع تغير الحكم تبعا له، بما يحقق ذات المصلحة المرجوة وهي العدل. طالما بقيت العلاقة بين الرجال والنساء في المجتمع إجمالا قائمة على عدم التكافؤ، وعلى تمييز الرجال، فتبقى للرجال القوامة والولاية وغير ذلك، لأن المسؤولية تقابل الامتياز. فإن تغيرت العلاقة تغير الحكم.
هذا الواقع تغير، فزال محل الحكم، وهذا الواقع الجديد القائم على التكافؤ هو أقرب للعدل، ولا سبب شرعي لرفضه، إلا أن يكون تعلقا بصورة مضت. يقول الشيخ خالد محمود في كتاب إزالة الأوهام: "فالراغبون في الاستمرار على العمل بصور الأحكام المعقولة المعنى، والتي لم تعدد تحقق معناها، حفاظا منهم على أحكام الشرع، وورعا واحتياطا لدينهم، إنما يقعون في محظور أكبر، لأن الشارع شرع تلك الأحكام محققة للمصالح، وليست أحكاما تعبدية غير معقولة المعنى، فإذا لم تعد محققة للمصالح واستمروا مع ذلك على العمل بها، فإن ذلك يعني أنهم جعلوها أحكاما تعبدية خلافا للشارع، وأدخلوا في الدين أمرا تعبديا لم يجعله الشارع كذلك، فوقعوا في شر الابتداع في الدين"
ما يقال في مسألة الزواج يقال مثله في مسائل التنظيم الاجتماعي كافة: من تنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين، وغيرها من العلاقات الاجتماعية والسياسية، التمسك بصور بعينها فيها (كالكلام عن "طاعة الحكام") مع تغير الصورة لا يمكن أن ينتج عنه إلا الظلم.
هذه القضية أظنها أساسية في مناقشة مشروع القانون: ألا يتخذ الشرع وسيلة لتمرير وترسيخ بل وتعميق الظلم الاجتماعي.
ثم هناك قضية أخرى تتعلق بها، وهي أن القانون برغبته في التوحيد والتنميط، وبحده من السلطة التقديرية للقاضي (لأسباب مفهومة، كون تلك السلطة تنتج مشاكل أخرى)، فإنه يتغافل عن التباين الشديد في الوقائع، ويفترض ويفرض واقعا اجتماعيا واحدا على المدن والريف، وعلى الحضر والبدو، وعلى الطبقات الاجتماعية المختلفة، في مسألة تتصل بتنظيم أخص العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وهذا أمر لا يمكن إلا أن ينتج مظالم أخرى

Comments

Popular posts from this blog

المستشار طارق البشري

العنف ضد المرأة