عن القرض والهدية، أو متى ينبغي علينا التوقف عن استخدام splitwise





 
"(ولا يجوز) الإقراض في النقد وغيره (بشرط) جر نفع للمقرض، كشرط (رد صحيح عن مكسر، أو) رد (زيادة)، أو رد جيد عن رديء، ويفسد بذلك العقد على الصحيح، لحديث "كل قرض جر منفعة فهو ربا"، وهو وإن كان ضعيفا، فقد روى البيهقي معناه عن جمع من الصحابة. والمعنى فيه أن موضوع العقد الإرفاق، فإذا شرط فيه لنفسه حقا خرج عن موضوعه، فمنع صحته.

 

(ولو رد هكذا) أي زائدا في القدر أو الصفة، (بلا شرط فحسن)، بل مستحب للحديث السابق "إن خياركم أحسنكم قضاء"، ولا يكره للمقرض أخذه ولا أخذ هدية المستقرض بغير شرط.....

 

فائدة: روى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقرض في حاجة غير مكروهة فالله معه"، وكان راويه عبد الله بن جعفر يقول كل ليلة لوكيله: اقترض لي شيئا لأبيت والله معي"

 

**

 

دي فقرة من فصل (القرض) في كتاب (مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج) للشيخ شمس الدين محمد الخطيب الشربيني (ت ٩٧٧). الشربيني هو أحد تلامذة شيخ الأسلام زكريا الأنصاري (٨٢٦-٩٢٦ هـ)، المدفون بجانب الإمام الشافعي. والشيخ زكريا له تلاميذ مهمين جدا في شرح كتب المذهب الشافعي، أشهرهم الخطيب الشربيني، والشهاب الرملي (ت ٩٥٧)، والشمس الرملي (ت. ١٠٠٤)، وابن حجر الهيتمي (ت. ٩٧٤)

 

ومغني المحتاج أحد المراجع المهمة في الفقه الشافعي، الشربيني بيشرح فيه كتاب منهاج الطالبين للشيخ محيي الدين النووي (٧٣١-٦٧٦ هـ). الكلام بين الأقواس هو كلام الشيخ النووي (ولا يجوز بشرط رد صحيح عن مكسر، أو رد زيادة، ولو رد هكذا بلا شرط فحسن)، والكلام خارج الأقواس هو شرح وتعليق الشربيني عليه

 

**

 

الفقرة القصيرة دي فيها حديثين ظاهرهما التعارض: الأول (كل قرض جر منفعة فهو ربا) مفاده إن المقرض مينفعش يستفيد من القرض، سواء كانت الاستفادة – زي ما النووي والشربيني بيقولوا – برد القرض بزيادة، أو برد شيء أفضل من الشيء المقتَرض. والثاني (إن خياركم أحسنكم قضاء) مفاده إن المقرض هيستفيد من الإقراض، لأن المقترض – عشان يمتثل للتوجيه اللي في الحديث دة – هيرد بأحسن صورة ممكنة، ومن تمام الإحسان أنه يرد أكثر أو أجود مما اقترض.

 

حل فقهاء الشافعية للتعارض الظاهر بين الحديثين دول يتمثل في كلمة واحدة: الاشتراط. لو الزيادة اللي حاصلة في الرد مشترطة في العقد، تبقى باطلة، لكن لو حصلت الزيادة دي تطوعا من المقترض تبقى مش بس صحيحة أو حسنة، دي كمان – زي ما الشربيني بيقول – مستحبة

 

**

 

الشربيني بعد تعليقه على كلام النووي عن استحباب رد القرض بزيادة في القدر أو الصفة، أضاف جملة في موضوع يبدو مختلف: الهدية

 

في تصوراتنا المعاصرة القرض والهدية معاملات بتحصل في مجالات مختلفة. القرض علاقة اقتصادية، والهدية علاقة اجتماعية، وبالتالي الكلام عن الهدية هنا المفروض يكون غريب، أو محل شبهة: الهدية في المجال الاقتصادي هي في الأغلب رشوة 

 

بس النووي والشربيني بيكتبوا برة التصورات دي. القرض عندهم مش علاقة اقتصادية، والعلاقات الاقتصادية في تصوراتهم مش مستقلة عن العلاقات والاعتبارات الاجتماعية. 

 

القرض مش علاقة اقتصادية بيدخلها المقترض بغرض زيادة رأسماله عن طريق تشغيل آخرين (تشغيل الآخرين دة بيحصل في علاقة تانية بشروط تانية، هي علاقة المضاربة، والفروق بين المضاربة والقرض مهمة ومؤثرة، أهمها إن المال في المضاربة ملكيته مش بتنتقل، ودة له آثار على حدود التصرف المسموح به، وحدود المسؤولية عن الربح والخسارة)

 

القرض – زي ما الشربيني بيقول – علاقة إرفاق. في اللغة أرفق فلانا يعني نفعه، والرفيق هو لين الجانب، أو الزوج، أو الصاحب. فمن حيث اللغة مبدئيا: الإرفاق علاقة هدفها نفع المقترض، وفيها معنى الصحبة. بالمعنى دة، الدور الاجتماعي للقرض ميختلفش كتير عن الهدية: الاتنين هدفهم نفع المتلقي، والاتنين فيهم معنى الصحبة. في فروق قانونية طبعا، بس من حيث التصور هما نفس الحاجة تقريبا، ممكن نقول بس إن القرض فيه درجة إرفاق أقل من الهدية، وبالتالي وجود الهدية في الكلام عن القرض مش غريب

 

**

من أين جاء الاقتصاد؟

 

السردية الرئيسية التي يرويها "علم الاقتصاد" عن نفسه، والمأخوذة بالأساس عن رواية آدم سميث، بتقول إن الإنسان البدائي كان بيوفر احتياجاته بنفسه بالصيد وغيره، ثم مع نشأة العلاقات الاجتماعية كان الإنسان بيتنج بعض الأشياء بكميات زائدة عن حاجته، ثم يتبادل هذه الأشياء مع غيره الذي يمتلك أشياء يحتاجها هو. يعني أنا عندي بعض الأبقار، بحلبها كل يوم، والحليب دة بستخدمه، والفائض أروح بيه للحلاق، يقدم لي خدمة الحلاقة مقابل زجاجة حليب مثلا. وبعد المرحلة دي ظهرت أشياء قبل النقد كوسائط للتبادل، زي الملح والأغنام، ثم ظهر النقد...ثم بعد ذلك، وفي العقود الأخيرة، استبدل النقد بالأموال الورقية

 

لكن انثروبولوجيين، زي ديفيد جرايبر، بيشككوا في الرواية دي، لأسباب نظرية وتاريخية. جرايبر بيقول النوع دة من التبادل صعب جدا تصور حصوله في الواقع، لأنه مش معقول في الوقت اللي أنا عندي سكر زيادة عن حاجتي ومحتاج شاي هيكون في حد عنده شاي زيادة عن حاجته ومحتاج سكر. صدفة ممكن تحصل مرة أو اتنين، بس مش متصور إنها تكون أساس التنظيم الاجتماعي. بالإضافة كدة، فالثابت تاريخيا إن التبادل دة كان محدود جدا، وكان حصوله مقتصر تقريبا على الأغراب، وكان بيتم في طقوس فيها عنف رمزي ومادي كتير

 

طيب إيه اللي كان بيحصل؟ علاقات ائتمان مش تبادل لحظي. أنا محتاج سكر، وجاري عنده فائض سكر، هاخده منه. مش لازم ياخد مني حاجة في نفس اللحظة. بعدها بفترة جاري ممكن يكون محتاج شاي وأنا عندي شاي فائض عن حاجتي، هياخد مني شاي. 

 

لسة محتاجين نحدد قيمة ما تم تبادله، وهنا بتظهر قيمة النقد مثلا. لكن النقد – وما سبقه من وسائط – هي وسائط لتحديد القيمة، لا للتبادل. يعني حتى مع ظهور النقد وانتشاره، صعب تصور إن المعاملات كانت كلها بتتم بالنقد. على الأقل لأن المعادن اللي النقد معمول منها هي معادن ثمينة، حتى الكمية الصغيرة جدا منها عالية القيمة، لا تصلح لشراء الاحتياجات اليومية.

 

دة معناه إنه حتى مع ظهور النقد، علاقات الإئتمان ظلت هي الأساس في التبادل. لما المجتمعات بقت أكتر العلاقات دي احتاجت لنوع من التدوين، ودة نتج عنه تاريخ طويل من التدوين إنتهى بالبنكنوت، واللي هي كانت لحد عقود قليلة جدا مضت مش أموال في ذاتها، لكنها صكوك ديون مضمونة بالبنوك

 

ودة معناه كمان حاجة تانية أكثر اتصالا بموضوع التدوينة: إن العلاقات الاقتصادية الصرفة لا يمكن أن تتم إلا بين أغراب. ودة لأسباب مختلفة منها أنها علاقات تبادل لحظي، يبدأ وينتهي في نفس المجلس/اللحظة، وهي أشبه بالحرب كل واحد فيها بيحاول يعظم منفعته، ولأسباب هيكلية بيحصل تهميش لأي اعتبارات عدا تعظيم المنفعة الذاتية، ومش صدفة طبعا إن تكون المصطلحات دي أغلبها أساسي في الكلام عن الاقتصاد

 

لكن علاقات الأئتمان بما إنها مش لحظية فهي بتفترض وجود قدر من الثقة، وبتساهم في بناء وتعميق الثقة دي. أنا هدي لجاري حاجة عشان هو محتاجها وهي زايدة عن احتياجي، ومش هاخد مقابلها حاجة غير بعد فترة في المستقبل لما احتاج حاجة يكون عند جاري فائض منها. مرور الوقت وحصول التبادل مرات أكثر بيعمق الثقة، وكمان بيعمق الاعتمادية: بنكون كلها معتمدين على بعض ولنا مصلحة في إن الآخرين يكونوا كويسين، دة وبيوجد إمكانية أكبر للعيش المشترك من غير احتياج كبير للسلطة في إنها "تحمينا من بعض". 

 

واستمرار وجود الآئتمان دة معناه استمرار العلاقة. وبالتالي أخطر مؤشر على انتهاء العلاقة الاجتماعية – زي ما انثروبولوجيين كتير بيلاحظوا – هو انتهاء انهاء علاقة الدين. ودة بيحصل بإني أرد لجاري قيمة ما أخذته منه بالضبط. ودة – فيما يبدو – في أوقات كتير مكانش بيحصل غير بالوفاة، اللحظة دي بتحصل فيها تصفية للحسابات، زي اللي بتحصل بين الأغراب في التبادل. عشان كدة الدراسات اللي عن أحكام المحاكم المتعلقة بالتركات بتلاحظ وجود ديون كتيرة جدا في التركات لأشخاص قريبين، مع وجود أموال توفي بسدادها وتفيض

 

يبقى استمرار العلاقة الاجتماعية مرتبط باستمرار وجود علاقة الإئتمان، ولو أنا أخذت من جاري حاجة، أسوأ شيء ممكن أعمله هو أني أرد له شيء بنفس القيمة (أو ثاني أسوأ شيء الحقيقة، لأن أسوأ شيء هو الدفع على الفور، أو التبادل بدل الأئتمان). الصح: إني أرد أزيد قليلا، أو أقل قليلا، عشان تبقى علاقة الإئتمان مستمرة

 

**

 

دة في تقديري مدخل لفهم بعض آثار الحديثين الأولين المذكورين: الرد بزيادة قد يكون مهم للتعبير عن الامتنان، ولفتح آفاق لاستمرار العلاقة الاجتماعية، لكن اشتراط الرد بزيادة بيحول القرض لعلاقة استغلال، وبالتالي هذا الاشتراط هو الممنوع.

 

وممكن يكون دور القرض في تعميق العلاقات الاجتماعية سبب في الحض مش بس على الإقراض، لكن كمان على الاقتراض، زي في الحديث التالت في الفقرة (من استقرض في حاجة غير مكروهة فالله معه)

 

**

من الحاجات اللي كانت – ولا تزال – مزعجة بالنسبة لي في نيو يورك، هي إني لو نزلت آكل أو أشرب قهوة مع حد من أصحابي، لما الحساب ييجي بيكون في إصرار على إن كل واحد يدفع حسابه. بحس بعدم ارتياح، وربما أنزعاج شديد، من فكرة الحساب الدقيق والآني دي. وبرتاح أكتر بكتير لما اعتدته في مصر من تبادل العزايم، أنا أعزم حد مرة ويعزمني المرة اللي بعدها، من غير ترتيب دقيق وطبعا مع استحالة التساوي الدقيق، بالكلمات المعروفة (خلاص يبقى المرة الجاية عليا)، (شايلينك للتقيلة)، وكلها مؤشرة لاستمرار علاقة في المستقبل

 

أحيانا النوع دة من العزايم بيكون فعلا سبب لاستمرار العلاقة. يعني ساعات إن حد أصر يعزمني على غذاء وإنا مش عامل حسابي إني أتعزم مثلا بتكون دين يؤرقني، وبحاول أقابل الشخص دة تاني عشان (أرد العزومة). تاني: في تداخل، أظن أغلبنا بيشعر به، بين القرض/الدين من جهة والهدية/العزومة من جهة أخرى: مع كون الهدية نظريا مش المفروض الواحد يردها، بس زي ما القرض هدية، فالهدية كمان قرض لأنها بتترد. مارسيل موس بيعتبر إن صور التبادل الاقتصادي القديم المشار إليه فوق هو من قبيل الهدايا، لكن جرايبر بيقول هي علاقات إئتمان مش هدايا، لأن فيها معنى الرد. 

 

طبعا رد الهدية مختلف عن رد القرض من حيثيات مختلفة. الهدية زي النقطة في الأفراح مثلا: بتترد باعتبارات اجتماعية أكثر كثافة من القرض. وحتى الأمثلة اللي أنا ذكرتها للقرض، اللي هو القرض في إطار التبادل، الاعتبارات الاجتماعية فيها أكثر كثافة من اللي في قرض لحاجة مثلا. يعني واحد مزنوق في فلوس فبياخدها على أن يردها لاحقا. بس الصورة الأخيرة دي المثال الأجلى لها – اللي بيحصل فيه رد للقيمة تماما – مش ما نسميه القرض، لكن ما نسميه "الجمعية".

 

الجمعية اختراع اجتماعي في منتهى اللطف فعلا: كل واحد بيحط فلوس أد اللي بياخدها بالضبط. وبالتالي محدش حاسس إنه متضرر. بل بالعكس كله حاسس إنه مستفيد، على أقل تقدير لإنه عرف يعمل ادخار لما كان في الأغلب سينفقه في غير الجمعية. لكن هي معاملة فيها معنى الإرفاق في غاية الجلاء. وفيها تضامن اجتماعي واضح بإزالة حاجة المحتاج، وكل ما يتكلفه المساهم هو قيمة الفرصة البديلة لاستثمار أمواله. لكن طبعا حساب القيمة دي مينفعش يكون بيحصل باعتبار اقتصادي بس إلا لو استبعدنا اعتبارات اجتماعية مهمة

 

ومن الحاجات اللطيفة في الجمعيات دي، إن كل شخص فيها – باستثناء آخر واحد بيقبض – بيمر عليه وقت بيكون "مقترض"، وبيدخل في إطار الحديث، مع دخوله في عموم الأحاديث الحاضة على كون الإنسان في عون أخيه، وتفريج الكرب عن الناس، وغيره.

 

 

**

 

في ٢٠١٨ كنت مسافر روسيا مع أصدقاء نتفرج على ماتشات في كأس العالم. السفرية طبعا حساباتها كتير، من أول حجز الطيران وتذاكر الماتشات والسكن قبل السفر، مرورا بكمية ضخمة من الأنشطة المشتركة، أغلبها أكل ومواصلات طبعا. 

 

في السفرية دي اتعرفت (من بعيد لبعيد) على تطبيق على التليفون اسمه splitwise. تعارف من بعيد لأني الحمد لله عمري ما استعملته، لأنه – مع فائدته الكبيرة – مزعج جدا

 

أنا كنت متقبله في "الحاجات الكبيرة" ، لكن تحوله من ذلك للتفاصيل الصغيرة، زي العشاء، والمواصلات، كان مزعج شوية بالنسبة لي. طبعا الدقة في التفاصيل الصغيرة أكثر حفظا "للحقوق"، بس التركيز على الحقوق وإن كل حق يستوفى في نفس اللحظة فيه معنى عدم استمرار العلاقة، أو على الأقل عدم استمرار أحد أبعادها وهو البعد الإئتماني دة، وعدم التسامح في الفروق اليسيرة اللي ينبغي ألا يلتفت إليها بين "الرفاق"

 

يعني إني لما أدفع ما يوازي خمسين جنيه مثلا في مواصلات أقسمها على تلاتة عشان كان معايا شخصين، ويكون نصيب كل شخص ١٧ جنيه إلا كسور، بدل ما أدفع أنا المرة دي، وبكرة حد تاني يدفع ويطلع المشوار بأربعين مش خمسين، وواحنا راجعين واحد يدفع ويطلع المشوار بأقل أو أزيد قليلا

 

وأني لما أخرج مع حد من أصحابي نشرب قهوة أو نتعشى نقعد نحسب كل واحد أكل إيه، وضرائبه أد إيه، ونقسم الحساب علينا بالشكل دة، بدل ما كل حد يدفع مرة، أو لو كنا مجموعة كبيرة ممكن نقسم علينا بالتساوي مثلا فيبقى حد دفع أكثر أو أقل قليلا من حسابه

 

دي حاجات فعلا أحفظ للحقوق، وربما "أريح للدماغ" لأن الدماغ اتعودت على ترتيب معين في التفكير في مسألة الحقوق، لكن هي قطعا فيها درجات أقل من التسامح المتبادل، والتطلع للمرة القادمة لـ"رد العزومة"، واللي من شأنه تغذية العلاقات الاجتماعية


**


الصورة هي تصوري لشكل العمليات الحسابية اللي بتحصل لما الشيك ييجي في خروجة الناس فيها مقررة إن كل واحد هيدفع حسابه

Comments

Popular posts from this blog

المستشار طارق البشري

العنف ضد المرأة

ولاية المرأة